كتب الصحفي ابي زيدان على صفحته بالفيس بوك وهو احد ابناء مدينة كيفه والتلاميذ الذين درسوا في ثانوية كيفه 1 مايلي :
رغم مرور اكثر من ربع قرن، مازلت اذكر بالتفاصيل الدقيقة مشهد ذاك اليوم الاستثنائي بأحد مساءات شتاء مدينة كيفة، مع بدايات تسعينيات القرن الماضي .
اذكر كيف بنيت الخيام بانتظام في حائط منزل المدير العام للثانوية ، طيب الذكر المنير ولد الطلبة ، بحي سگطار في كيفة .
الأنباء الواردة للسوق في سگطار يومها ، وهو مركز الأخبار الوحيد، تقول ان فلانا وفلانة " انفتح اعليهم البارح" ، وأن "أهل الفيضة " ضيوف هذا المساء عند المنير.
كنت أحمل إسم "أبي" من دون وعي بالشحنة الدلالية له ، ولا ادراك حتى لكنه ومعاني تلك الاوراد التي كان يواظب عليها أبي رحمه الله بطقوس خاصة في زوايا المنزل ، وفي الفضاءات المفتوحة اينما ذهب، خصوصا في مساء الجمعة من كل أسبوع، ومع ذلك وجدتني مع الساعات الاولى للحدث الفريد من نوعه هذا المساء ، أحارب بطريقتي الخاصة للحصول على مكان مرتفع من فوق الحائط المقابل لمنزل المدير، بما يسمح لي بالرؤية بشكل جيد .
بدأ القوم بالتوافد، وتعالت الأصوات بالذكر بشكل جماعي ممجدة الخالق الماجد الواجد الواحد، وموزعة حب المصطفى في كل أرجاء المكان ، طريقا وهاجا وسراجا منيرا للحق .
ابتهالات وترانيم ورقص متناغم مع تصاعد حالات الوجد ، تتخلله حالات إغماء محدودة ، وغياب بالتدرج عن الوعي بحدود الزمان والمكان من حين لآخر.. ولأول مرة وجدتني أشعر برغبة جامحة للتماهي مع الصورة، فليس هناك ،بداخلي في تلك اللحظة، من هو أكثر رغبة في " الفتح اعليه" مني ، ولكن للاسف لم يحدث…!
عدت للمنزل مع الساعات الأخيرة من المساء أحمل معي أسئلة مؤجلة تتنازعها رهبة المشهد و لذة الانشغال به وضبابية الصورة لفتى غر يتلقى كل شيء بالتلقين، ولم يتكشف له من دنياه بعد الا القليل . حفرت احداث ذاك المساء عميقا في وجداني وذاكرتي ، لأكتشف بعد سنوات طويلة انها كانت تقودني بخطى ثابتة للانتهاء في أحضان مولانا ابن عربي، قادما هذه المرة من مدائن ابن رشد، أبحث عن طمأنينة اليقين ، تلك التي وجدتها تماما كما كانت عند والدي رحمه الله وهو يستشعرها في لحظات الوجد والحب في محراب أوراده الصوفية .
لقد فهمت لاحقا بعد اكثر من خمسة عشر عاما، ما لم يكن بامكاني استعابه يومها. فحينما يتحرر الجسد من إكراهات الإحساس بالواقع الزائف ، يحدث الجنون . تصبح الأفعال غير منطقية!
تتداخل الصور والأشكال التي فقدت ناظمها في لحظة انكشاف ، فتتحول الى منطق اخر ، وعالم آخر . عالم مفارق .. لحظة الانكشاف والتجلي ، تلك اللحظة التي ينشد فيه العارف حقيقة نقصه وشغفه بالكمال المطلق، فلم يعد لجسده حضور في هذا الوعي الجديد، "الوعي الغائب" لدى من بقوا حبيسي العالم الواقعي الذي تحرر منه الجسد هنا قبل لحظات!!
فهنا لا حقيقة الا الله ، لا اله الا الله … إلا … إلا … إلا الله.
اللهم فاكتبني من المحبين عندك.