إنتاج القيم : / محمد أفو

خميس, 2023-06-22 12:43

علق العالم العربي لعقود في سؤال النهضة ، وهذا السؤال ليس من الأسئلة ذوات الإجابة الواحدة أو المحددة أو حتى الواضحة ، وهو بذلك سؤال مربك ومعقد .

 

هناك جانب نفسي تعلق بدوافع السؤال ، وهو جانب جعله سؤالا لا ينتظر الإجابة بقدرما كان مطروحا وحيا لترويج الدعاية التاريخية واعتزال الإقتداء و النمذجة .

 

فحين يطرح العرب النهضة كمفهوم فهم بذلك يسلطون الضوء على إرثهم المستحق أو المغتصب أو المنتظر .

وتلك عقدة يضيق المقام عن لملمة أطرافها ، ولو أنه يستدعي الإشارة إليها بغية نسج واضح لموضوع المنشور .

 

هناك من اقتدى بالعصر وعينه على مشاركة الهم الإنساني والاسهام في أول تجربة حضارية أممية عرفها التاريخ .

 

وهناك من نظر خلفه ليبارك غروره من خلال الاقتداء بنفسه لحظة كان قدوة لغيره .

 

وهنا يكمن الفرق 

انشغل الياباني في تأمل المحرك الألماني ، وتمعن أسراره.

 

وانكب السنغافوري على المختبر يتأمل تراكيب الدواء السويسري.

 

بينما ثقبت عين الصيني أسرار الغرب وتلصصت على بواعث نهضته .

 

في هذا الخضم تحركت على هامش النشاط الحضاري ثلاث توجهات متشابهة في النهج ومتطابقة في الروح .

 

التوجه الأول معاد للغرب و كرس كل ثروته للمواجهة والتسلح واعتبر المواجهة قضية ، واختزل الانسان في آلة تكتسب قيمتها من انتصارها للقضية بينما لا تُعنى القضية بغاية الإنسان .

 

مثل هذا التوجه في أوجه ما عرف بالاتحاد السوفييتي ، الذي ورث شحنته لجيوب أخرى في العالم ، وبتفاوت .

ولايزال يمين هذا التوجه متجسدا في دولة كوريا الشمالية ووسطه في بعض دول أمريكا الجنوبية ، بينما يستقر يساره في الصين .

 

التوجه الثاني هو توجه أخذته العزة بالماضي باعتباره قدوة لنفسه ، وصار جل همه في محاربة المفاهيم التي يعتبرها مبشرة بذوبانه .

 

وهو توجه تجسدت فيه عقدة الأنا المصابة والتي تحتاج للصيانة وليس للاستبدال .

 

جسد هذا التوجه جل العالم الاسلامي الذي سوق الحضارة الغربية كمنافس غولي يبتغي إبلاع تاريخه وتحييد إرثه .

 

فشكل مواجهة مفاهيمية فقيرة سياسيا ومدمنة على الخصومة ومنتج الخصم في ذات الوقت .

فشكلت بذلك تركيبة متناقضة بين التحالف السياسي مع الخصم ومباراته الخصومة في الخطاب والمفاهيم والثقافة .

 

شكل يمين هذا التوجه دول مثل إيران والسودان والعراق وسوريا البعثيتين ، بينما استقرت في وسطه دول الخليج ، وكان يساره منتشرا في دول شرق ووسط آسيا المسلمة .

 

التوجه الثالث كان لايزال طائفا في فراغ حضاري شفاف ، واتخذ مسلكا لا مباليا من هذا المد الحضاري الحديث .

ومثلته دول كثيرة يقبع أغلبها في القارة السمراء .

 

ليس هذا مجال فصل ولا تفصيل لكل تلك التوجهات ، لأن الموضوع هنا للاستشهاد في موضوع آخر وهو موضوع المنشور .

 

طرح السؤال بصيغة أممية ( لماذا تخلفت الأمة وتقدم غيرها ) وطرح في صيغة قطرية ، ( لماذا تقدمت اليابان وتخلفت مصر ) أو ( الجزائر - ماليزيا ) ... الخ 

وطرح في صيغته السياسية الايديولوجية ( اسرائيل - العرب ) ، ( العالم الاسلامي - العالم المسيحي ) ونماذج السؤال كثيرة ومتنوعة وباعتبارات مختلفة .

 

وسأحاول الإجابة على السؤال للإسهام في فك رموز الإجابة وليس للإجابة .

 

أعتقد أن توظيف الجهد السياسي والفكري والإبتكار التقني والمفاهيمي يجب أن يكون لرفاه الإنسان وليس خدمة لقيمه .

لأن اللبس بين الغايتين شفاف جدا بحيث يصعب إدراكه وحتى تفهمه بعد الإدراك .

 

سأورد مثالا للشرح واستلطاف المراد .

 

حين تم تحريم الزنى ، كان ذلك حماية للإنسان منه وليس حماية الزنى من الانسان .

كانت الغاية هي جودة حياة الانسان وتنظيمها واستقرارها .

 

حدث بعد ذلك أن تشدد الفقهاء في فقه سد الذرائع حتى تم الفصل بين الجنسين بحصر أحدهما بعيدا عن نظر الآخر وتعتيمه وتغطيته حتى لا يستحث بوادر الفعل أو ذرائعه ، وسكت بذلك قاعدة " مايؤدي إلى حرام فهو حرام " 

 

وفي هذا الخضم لم يعد الانسان هو غاية التقويم والتهذيب ،وإنما محاصرة الزنى هي الغاية ، ولم تعد نزعات هذا الإنسان مطروحة للتنظيم وإنما تم عزلها بعيدا وكأنها نسي من الفطرة أو مكتسبة بفعل إثم أو خطيئة .

 

تضخمت الدوافع لدى الانسان المحاصر وتفاقمت حيوانيته وتذلل لشهوته وأصبح في اعتبار الوحش ( " الذئاب البشرية " كما كنا نسمع من الفقهاء والوعاظ قبل عقد أو اكثر. ) .

 

تحولت خارطة الكبت إلى أكثر الأمم إنفاقا على الجنس خارج الحدود ، وأكبر مستهلك للمنشطات الجنسية ، وأكثرها بحثا عن المواد الإباحية في محركات البحث السيبيرية .

 

هكذا تشكلت خارطة الوعي وأعيدت صياغة الفطرة للتحول لبرنامج مشوه يشبه التلاعب بالجينات .

 

في المثال أعلاه تم انتاج قيم وحيدت أخرى .

 

وفي ذات المثال إستعدتُ الآن قيما وحيدت أخرى .

 

كيف حصل ذلك ؟

 

ماتحتاجه القيم لتكون حية في الواقع ليس فقط استئصالها من حيز الكمون المثالي ، وإنما بكشف الزيف الذي يعج به الواقع حولها .

 

واللحظة النفسية هي لحظة مباغتة الوهم للحقيقة ( المرض ) ، أو لحظة مباغتة الحقيقة للوهم ( التوازن ) .

 

وفي المثال أعلاه يمكننا بسهولة إحلال الحقيقة حيز الزيف ، ليس بالإرادة الفاعلة وإنما بفضح الزيف المترسب حول الحقيقة بفعل التقرير البشري عبر الزمن .

 

للفطرة قوة كامنة لا تحتاج لأكثر من الوعي بالحاجة لها لتنطلق مندفعة ومنيرة لسراديب الوهم وظلماته .

 

وجل الشعوب التي تحدثت عنها ، كان عامل تأخرها هو تثقيف العداء وتقديس المخوف وتسخير الإنسان للخوف من المفاهيم بدل نثر محتوى هذه الشعوب وإرثها ليستوطن موطئا في الحيز الإنساني بعد المغالبة والتأثر والتأثير .

 

وللموضوع بقية في حيز فلسفي لن يكون متقبلا لدى الكثير منكم وهو علاقة إحياء القيم وإنتاجها بالتنمية ، لأنني أنتقي من الفلسفات مايطيب إستشعاره للفطرة والعقل ، دون الخضوع لهيمنة التوجهات والمدارس الفكرية والايديولوجية .

 

وفي حيز الإنتاج القيمي وآلياته وطبيعة وخصائص خطوط إنتاجه ، تحدثت الماركسية بكياسة ومنطق قوي .

 

لهذا إعتقدت ان الأمر لن يريحكم كاقتباس .

 

لكن قوة النقد تحتاج للتفعيل للتحصن بالمنطق لتجوب حقول المعرفة الإنسانية مقتبسة توليفتها المناسبة بين زحام المرور الفكري والفلسفي .

 

فنموذجية تشي جيفارا تتعلق بمغالبته للباطل وليس بدينه ومعتقده .

 

ونقد البنا هو نقد لتصوراته للنهضة وليس لمعتقده ودينه .

 

وهكذا .

 

يكون العمل الإنساني متكاملا حين يبتعد عن التعقيد والتقعيد .

ّ

وطالب الحكمة يصدر عن أخري .

 

في المشروع الوطني نطرح خطة واعية لإحلال المثل في حيز الممارسة وإحالتها إلى قيم حية تتجسد سلوكيا ومعرفيا في

أديم الواقع .

ولنا في ذلك استراتيجيات علمية نستحسن مشاركتنا في تفعيلها وتقييمها