مع إشراقات الفجر، يبدأ بتّار، الأربعيني، في المغادرة إلى خارج المدينة عشرين كيلومتراً لـ«يُحشّش». يُعرَّف التحشيش، الذي يمتهنه بتّار، بأنه جمع العشب اليابس من خارج المدينة وحمله على عربة ثم الإتيان به إلى المدينة، حيثُ يُستخدَم كعلف، وبيعه للسّكان. ثلاث مرّات، كلّ أسبوع، يذهب بتّار فجرًا للتحشيش ثم يعود مع الغروب. منذ عشرين سنة وهو يمارس هذه المهنة.
بعد انتهاء فصل الخريف، وتضاءُلِ العشب في النواحي القريبة للمدينة، يأتي دور الحشّاش ـــ دور الذّهاب إلى ما هو أبعد وأصعب. في كلّ عامٍ، وعقب كلّ خريفٍ، يجهّز الحشّاش عربته وحماره وشبكته ويتزوّد بقليلٍ من الماء ثم يغادر إلى حيث يوجد الحشيش خارج المدينة. صار هذا تقليداً حيوياً ومبتكراً خلال سنواتٍ طويلة. واليوم هو ممارسة معتادة ومعترفٌ بها وتلقى قبولاً في أوساط السّكان.
صحيحٌ أنّنا لا نعرف بالضّبط تاريخ ظهور الحشّاش، كمحترفٍ، وعامل من نوعٍ مستقّل، ولكن يمكن القول إنّ ظهوره، على وجه التقريب، قد ترافق مع تمركز الناس في أماكن معيّنة قبل عقود، أي منذ اللّحظة التي توقّفوا فيها عن الترحال وبدأوا يدخلون في صيرورةٍ من الاستقرار المدينيّ.
في تلك اللحظة التي كفّ فيها الناس عن الترحال، وحركة الانتجاع الدّائبة بحريةٍ على وجهها، ليستقرّوا في مكانٍ معيّنٍ إلى جانب آخرين غرباء، ظهرت الحاجة للحشّاش، فكان لزاماً أن يولَد مباشرةً. هنا كان ميلاده ككلّ شيءٍ نتيجة ظروف معيّنة. ظروفٌ تمثّلت في حاجة دوّاب أهل المدينة المستقرّة، والمتحركةِ في فضاءٍ محدود جداً، إلى الحشيش، أي العشب اليابس. فحين كفّ الناس عن الترحال، وبدأوا يستقرون في المدن، بدا أنهم غير قادرين على الاستغناء الكليّ عن ما يحلبونه ويبقون به صلةً مع تقاليد معيشتهم البدويّة. كان طبيعياً أن يحتفظوا، حينذاك، بحيوانٍ حلوبٍ: بقرةً في المعتاد، أو ناقة، أو معزاةً حتّى.
إنّ اللّبن مركزيٌّ في حياة أهل هذه الأرض، كما هو معروفٌ، فعلى مدار تاريخهم الغذائيّ كان ومشتقاته شيئاً أساسياً جداً، مهما «شحّت» الظروف أو «وفّرت». وكذلك اللّحم، فهو أيضاً يعدّ أساسياً في غذائهم ومعيشتهم. ومع التغيّر الاجتماعي الذي حصل، بتحوّل كثيرٍ من السكان من «الباديّة» إلى «المدينة»، لم يطرأ شيء من شأنه أن يقلّل من قيمة اللّبن واللّحم في النظام العذائي والمعيشيّ، بل ظلاّ على قدرٍ كبير من الأهميّة حتى صار ممكناً القول: إنّ تاريخ «الوفرة» أو «الندرة» محلياً هو تاريخ وجود/انعدام اللبن واللحم ومشتقاتهما، كمعيارٍ قاعديّ.
ولمّا كان معروفاً أن اللبن يتمتع بقيمةٍ كبيرة، كان طبيعياً أن يكون هناك في الحالة هذه سعيٌ دائم من أجل توفّره. وليتوفّر لا بد من أكلٍ للدّواب المحلوبة بطبيعة الحال. وما دام مستعصياً ذهاب الدّواب، في المدينة، إلى مواطن الحشيش خارج المدينة بعيداً، كان لا بدّ أن يُأتي به إليها. وهنا جاء دور الحشّاش. طبيعة عمل الحشاش هي طبيعة موسميّة، إذ تبدأ عند انقضاء فصل الخريف وتختَتم مع حلول نهايات الشتاء. وهناك، إضافةً لهذه الموسمية الزمنية، طريقةُ توفيرٍ وتسويق يختصّ بها الحشاش أكثر من غيره.
كتصنيف يمكننا أن نعتبر الحشاش عاملاً «مدينياً» من نوعٍ ما وإن كان لا يمتّ بصلة كبيرة لقطاع الاقتصاد الحديث. فهو يقدّم منتوجاً مستهلكاً في المدينة. ويجري طلبه على نطاقٍ واسع بين سكّانها. وفي هذه النّقطة أمكن اعتباره مندرجاً في منظومة الأعمال المهمّة في صلب الحياة اليوميّة داخل المدينة، لا من جهة توفير خدمة وإمكانية ترفيهٍ للسّكان تتعلّق بوسائل وأدوات معيشتهم فحسب، وإنما من جهة أنّ نشاطه يُشكّل مصدراً للدّخل له عائداته وإسهاماته المعتبرة.
على أنّ الظروف الحضريّة في بعض مدن الدّاخل الموريتاني، التي برز فيها الحشّاش، لم تكن جاهزة. لكنّ التحشيش، بوصفه عبوراً أو وصلاً، سيمكّن من فهم انتربولوجيا تلك الظروف الحضريّة. كما أنه سيسهم في بناء دلالة وصفية وتفسيريّة لحالها اللاّ مكتمل، أي أنه سيدّلنا على صيغة الرّبط القلق بين عالمين: «المدينيّ» و«البدويّ» ههنا. صحيحٌ أن هذه الثنائية التصنيفيّة صارت تقليداً رتيباً، منذ فترة، لكنّ نظراً بسيطاً إلى دور الحشّاش باعتباره اختباراً فريداً لها سيدفعُ إلى الاعتقاد بأنّها ما زالت قابلةً لاستخدامٍ حيويّ ما. فبممارسته عبوراً بين عالمين، من أجل إعادة الصّلة بينهما، يدفعنا الحشّاش إلى أخذ مهنته على محمل الجدّ. مهمّة تبدو عاديّة، في أغلب الأحوال، لكن لا يخفى أنّ لها إسهاماً في تشكيل واقعٍ قائم لا يُرضَى له بأن يكون حاسماً في تحوّله.
ليس الحشّاش مستفيداً من تمايز العالمين الكليّ عن بعضهما البعض، فأساسه، الذي ينطلق منه، هو ضرورة الرّهان على تجانسٍ مستحيل، وهجانةٍ عفويّة. إذ إنه في اللحظة التي ينتفي فيها التداخل بين العالمين يغدو عمله فاقد القيمة، بلا جدوائية، ولا فائدة تُرجى منه. إنّ هذا ما لا يريده أبداً. فلكي يظّلَ موجوداً يتوجّب أن يبقى التداخل ذلك بين العالمين قائماً. ليس الحشّاش، في هذه الحالة إذاً، ثورياً ولا حتّى محافظاً.
في السابق كان الحشاش يتمتّع بحريّةٍ كبيرة في عمله، أمّا اليوم، وفي ظّل توسّع المدن وازدياد مركزيّتها وضجيجها، فإنه قد صار مقيّداً في تحرّكاته وطبيعة عمله، حتّى أنّ الشُّرط المحليّة صارت تترصّد تحرّكاته كي تُضبطه ويدفع لها ضريبة معيّنة. وهذا، إذا تأمّلنا، يعني أنه صار يتحرّك في مجالٍ يخضع فيه للرقابة. ثم إنه يعني أيضاً أنّ هناك رغبة عند السّلطات المحلية في إدماجه ضمن فئة أصحاب الأعمال «المهمة» التي يدفع صاحبها الضريبة ويستصدر التصاريح اللاّزمة لمزاولة عمله.
ربّما يُفضي هذا، مستقبلاً، إن استّمر وتصاعدَ بوتيرةٍ سريعة، إلى أن تأخذ مهنة «التحشيش» طابعاً مؤسسياً في أيّ لحظة. فالضريبة، منذ القدم تستلزم، كما هو معلوم، دمجاً وضبطاً لا غنى عنهما كيْ تُحصَّل وتُستجمع بسهولة. ولكّن متى صار الحشاشون، في عملهم، لا يتحرّكون إلاّ ضمن إطارٍ مؤسسيّ مضبوط، فإنّ عملهم سيصبح، مباشرةً، مهدّداً بالزّوال. ليس الحشّاش مزوّداً بأي آمالٍ كبرى. ذلك أنّ كلّ ما يهمه هو أن تبقى مهنته قائمة بالصيغة العاديّة. لا يعترف الحشّاش بالحدود. إنه يمارس عمله بعيداً عن وصاية المجموعات الأهلية والدولة على الأرض. يتعامل مع الأرض كمعطى طبيعي ومتاح في أيّ حين أمامه. يجد نفسه الأحقّ بها.
تتلخّص هويّة الحشّاش في رهانه الدّائم على نفسه. ذلك الرهان الذي يصبّ في مصلحة الإنسان والحيوان عن طريق نوعٍ من إعادة الخلق البسيط لمادة عمله. مع ذلك فالحشّاش لا يوضّح بأيّ شكل أنّ له رهاناً بهذا المستوى السامي. يكتفي بمزاولة عمله وتقديم نفسه كبائعٍ بسيط. إنّ رهانه الخالص على نفسه يدفع به حتّى إلى العمل منفرداً بمعزلٍ عن أيّ مجموعة، أو فريق، أو حسٍّ بالزمالة. شأنه أن يبقى مجهولاً منفرداً: يذهبُ وحيداً ويعود وحيداً دون رجاءٍ للبطولة. إلاّ أنّ تأثيره مع ذلك غير قابلٍ للمحو. فهناك في التواريخ الصغيرة للمدن الموريتانية، غير الحاسمة والفريدة، يحتّل مكانةً كبيرة لا ينافَسُ عليها أبداً.
الكاتب : عالي ولد الدمين