في ذهني منذ الصغر كأي واحد من أبناء غرب الصحراء الإفريقية تحتل القيروان مكانة خاصة في الوعي والوجدان ،لسببين رئيسيين : أولهما يعود إلى أنها هي المدينة التي اختط الفاتح الكبير عقبة بن نافع الفهري لتكون قاعدة للفتح ومنارا للدعوة والجهاد حتى وصلت خيول الفاتحين بقيادة عقبة المشارف الشمالية للصحراء الأطلسية ، قبل أن يكمل حفيده حبيب بن أبي عبيدة مهمة اجتياز الصحراء الموريتانية عام 116هـ لتبليغ الإسلام وتثبيت أركان دعوته. أما الثاني فيتعلق بالدور التأسيسي الذي اطلعت به القيروان في دعم وتأطير حركة المرابطين التي جددت الدين وأقامت دولة في الصحراء سرعان ما امتدت لتشمل المغرب والأندلس ، ومن المعروف أن يحي بن ابراهيم الجدالي حمل فكرة التجديد الديني والسياسي من مدرسة القيروان بقيادة أبي عمران الفاسي وحلف العلماء الذي كان ينتمي إليه. ما إن زرت تونس لأول مرة عام 2012م حتى كانت زيارة القيروان على رأس أولوياتي فهو حلم تاريخي آن أوان تحققه ،لقد سبق أن زرت عام 2009م بلدة "سيدي عقبة" قرب مدينة بسكرة في الجزائر على بعد أزيد من 700كم من الجزائر العاصمة ، وهي البلدة التي تحتضن ضريح الفاتح عقبة بن نافع الفهري الذي ارتقى شهيدا عام 62هـ من أجل التمكين للإسلام في الربوع الإفريقية، وها أنا اليوم أكمل بقية الرحلة بزيارة مدينة القيروان التي اختطها عقبة عام 50هـ كأول مدينة إسلامية في الشمال الإفريقي ،وبعكس بلدة سيدي عقبة في الجزائر البعيدة عن العاصمة الجزائر ، لا تبعد القيروان عن تونس العاصمة غير مسافة 156كلم وهي مسافة عادية ،لاسيما في نقل متطور وشبكة طرق حديثة. المدينة الرسالية في السيارة على الطريق الرابط بين تونس والقيروان تتداعي إلى الذاكرة قصة تأسيس القيروان والأدوار الحضارية التي لعبت في تاريخ الإسلام بإفريقية، وتقاسمت مع الرفقاء نقاش بعض هذه التداعيات وفي مقدمتها عمق وريادة فكرة عقبة بن نافع حول وجوب تأسيس مركز عمراني إسلامي في الشمال الإفريقي ليطلع بأدوار التبليغ والجهاد من أجل نشر الإسلام وتثبيت أركانه في هذا المجال الجغرافي والبشري الذي اشتهر سكانه في - تلك الفترة- بسرعة التقلب والخضوع للتأثيرات الرومانية،وهي الفكرة التي سيكون لها عظيم الأثر في توطيد دعائم الوجود الإسلامي في الشمال الإفريقي. أحد الزملاء لفت انتباهنا إلى ما تناقلته المصادر التاريخية من أن عقبة وكبار قادة جيشه بعد فراغهم من بناء المدينة الإسلامية الجديدة طافوا بها، ثم أقبل عقبة يدعوا الله لها وأصحابهم يؤمنون، ومما قال في دعائه: (اللهم املأها علما وفقها ،وأعمرها بالمطيعين والعابدين ،واجعلها عزا لدينك، وذلا لمن كفر بك ،وأعز بها الإسلام ،وامنعها من جبابرة الأرض ) . من جانب المحراب يبدأ سيرنا كانت محطتنا الأولى في القيروان هي زيارة جامع عقبة بن نافع الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى سنة 50 هـ ،مع أن رسمه وتخطيطه النهائي يعود للفترة مابين 220-226هـ ،ما إن دخلت باحة الجامع حتى تملكني إحساس ممزوج بالرهبة والسكينة وأنا ألج لأول مرة في حياتي هذ الجامع المبارك الذي يعد أقدم جوامع الشمال الإفريقي وأكثرها شهرة والذي تعاقبت على الصلاة فيه وتعمير زواياه بالعلم والعبادة أجيال من العلماء والعباد،كانت صلاة الظهر قد أذن لها بتوقيت القيروان ،وما هي إلا دقائق معدودة حتى كان سكان القيروان من الأحياء المجاورة للجامع يتوافدون زرافات ووحدانا إلى الجامع الذي عشقوه وعشقهم لما يمثل من ذاكرة جمعية ومبعث أشوقهم الروحية على حد تعبير الحاج محمد حبيب الذي يحرص على الصلاة في الجامع رغم بعده عن منزله .بعد انتهاء الصلاة بدأت التطواف داخل الجامع الذي يعد بحق أبرز إسهامات العمارة القيروانية في الحضارة الإسلامية بالغرب الإسلامي، حيث يعتبر الجامع من الجوامع القليلة التي حافظت على عناصرها المعمارية الفريدة ،حيث حافظ رغم القرون المتعاقبة على تخطيطه و محرابه ومنبره. داخل قاعة الصلاة في الجامع تثير ناظريك الأقواس المزركشة والسقف المرتفعة الجميلة ،والمنبر الشامخ الذي يتحدى عاديات الزمن ،أما خارجها فيبهرك صحن الجامع الذي يتميز بفناءه الواسع على نحو لم أره من قبل في الجوامع التاريخية التي زرت في في فاس أو تلمسان أو غيرهما ،كما تتميز مئذنة جامع عقبة ذات القاعدة المربعة بالارتفاع وجودة التصميم والتي تزداد جمالا وبهاء في الليل مع الإضاءة ذات المصابيح الزرقاء . ونحن نودع جامع عقبة بعمرانه النابض بالتاريخ والحضارة كان الزملاء المرافقين يتهامسون بالإحساس الجميل الذي تصفوا له النفس وتستعذبه الروح مع الشعور بالهيبة والسكينة الذي شعروا به داخل الجامع على نحو مشابه لروحانية المسجد النبوي في المدينة المنورة . مقام أبو زمعة البلوي ثاني معلم في رمزيته الدينية كان علينا المرور به بعد الجامع الكبير هو مقام سيدي الصحبي كما يلقبه أهل القيروان ،والمقصود هنا هو ضريح الصحابي أبو زمعة البلوي ،الذي استشهد سنة 34هـ/654م ،خلال الغزوات الإسلاميّة لإفريقية في غزوة معاوية بن حديج في مواجهة الجيوش البيزنطية قرب عين جلولة 30كم غرب القيروان وقد دفن جثمانه في موضع القيروان قبل تأسيسها. وبحسب القائمين على شؤون المقام فإن أبوزمعة كان يحمل معه شعرات للرّسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويلقّبونه بـ"صاحب الشعرات" وأنه كان حلاقا للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ،وقد أقيم على الضريح في عهد الأمير حمود باشا المرادي (1072هـ/1663م) مركب عمراني جميل يضم مدرسة وزاوية،يقصده أهل القيروان ويعقدون عنده المناسبات الاجتماعية تبركا به. فسقية الأغالبة وبئر بورطة ومن معالم القيروان الرئيسية التي حرصنا على زيارتها والتطواف في جنباتها فسقية الأغالبة وتسمى أيضا «بركة الأغالبة»،وهي إحدى مآثر عهد الأغالبة الباقية إلى اليوم وهي أشهر المؤسسات المائية في الحضارة الإسلامية ،وقد أقامها الأمير أبو إبراهيم احمد بن الأغلب سنة 248هـ/862م، بعد عامين من العمل المتواصل،حتى خرجت في أحسن شكل هندسي وعمراني. يحكي جانبا من قصة الحضارة في القيروان وإبداعها في تخزين مياه الشرب،يزورها في المساء الكثير من أهالي القيروان وزوارها ،لاسيما في ظل التحسينات والصيانة التي حظيت بها في الأعوام الأخيرة . ومن المؤسسات المائية القديمة في القيروان بئر بروطة وهي بحسب الدليل السياحي بئر مباركة من شرب منها لابد من أن يعود إلى القيروان مجددا ،وتعتبر بئر بورطة من أهم وأقدم الآبار، أنشأها الوالي العباسي هرثمة بن أعين حوالي سنة (180هـ/796م) في مدة إقامته بالقيروان، والبئر غزيرة وقد أعيد بناؤها أيام الحكم المرادي ، ولا تزال نافورتها المصممة على شكل جمل تجري بالماء إلى اليوم. مدينة العلم والثقافة خرجت القيروان خلال تاريخها الثقافي والحضاري العريق أسماء لامعة في دنيا الحضارة في شتى مجالات المعرفة،مما يعكس مستوى الثراء الحضاري الذي وصلت إليه المدينة في عصورها الزاهية، وفي مقدمة هؤلاء الأعلام أسد بن الفرات، صاحب كتاب الأسدية، الفقيه والقاضي المجاهد الذي فتح جزيرة صقلية عام 827م.ومن أعلامها الكبار شيخ المالكية سحنون صاحب "المدونة" التي طبقت شهرتها الآفاق ،والطبيب المشهور أحمد ابن الجزار صاحب "كتاب زاد المسافر وقوت الحاضر" ،والأديب والناقد ابن رشيق القيرواني صاحب كتاب "العمدة"،والفقيه والعالم المتكلم محمد بن الحسن المرادي الحضرمي صاحب كتاب "السياسة،أو الإشارة في تدبير الإمارة "،والشاعر الضرير علي الحصري بقصائده المشهورة وفي مقدمتها ،قصيدته،يا ليل الصب متى غده ،ذائعة الصيت في الأدب والغناء العربي. يَا لَيْلَ الصَّبِّ مَتَى غَدُهُ ** أَقِيَامُ السَّاعَةِ مَوْعِدُهُ رَقَـدَ السُّمَّـارُ فَأَرَّقَـهُ * * أَسَفٌ للبَيْنِ يُرَدِّدُهُ لقد ظلت القيروان عبر تاريخها مدينة علم وثقافة ومقر مدرسة فقهية وكلامية رائدة في الغرب الإسلامي،مما ساعد على ازدهار العلوم وانتشار الكتاب والمكتبات العامة والخاصة ، وهو المناخ الثقافي الذي شجع الأمير إبراهيم الثاني الأغلبي( 261 - 289هـ / 875 - 902م) إلى إنشاء بيت الحكمة في القيروان لتحاكي بيت الحكمة في بغداد، وقد استقدم الأمير الأغالبي لذلك أعدادا كبيرة من علماء الفلك والطب والنبات والهندسة والرياضيات من المشرق والمغرب. ودعنا القيروان على عجل مع حلول الظلام وكان بودنا أن نزور بقية المساجد والزوايا القديمة و المواقع الأثرية مثل جامع البيبان الثلاثة ومتحف رقادة ،والتطواف في طرق وزقاق البلدة القديمة وأسواقها ،و تذوق حلويات القيروان المحشوة بالتمر واللوز، وهو ما عسى أن يتحقق في رحلة أخرى . (*) باحث موريتانى -