محمد محمود ولد محمد الراظي : عندما تغيب العظمة .. والثورة .. والكبرياء

سبت, 2016-03-05 13:03

بمناسبة ذكرى رحيل المغفور له محمد محمود ولد محمد الراظي أعيد نشر تأبين له كنت قد نشرته ايام وفاته في بعض المنابر الصحفية المحلية .

محمد محمود ولد محمد الراظي : عندما تغيب العظمة .. والثورة .. والكبرياء / بقلم : د . الشيخ ولد سيدي عبد الله . 

كانت مفاجأة .. وصدمة .. الوقت كان غروبا .. كانت شمس جبال لعصابة تنحني باتجاه المجهول .. سابغة بلونها الاصيلي جبهة المساء .. هي إذن لحظة لطالما ألهمت الرومانسيين والصوفيين بمعنى العدم .. وعلمتهم أبجدية الفناء ..
نعم .. أيقونة الفناء لا يستطيع أن يفسرها إلا الذين يكتوون بفراق العظماء .. لاقتناعهم بان العظماء لا يموتون إنما تغيب سحناتهم .
هل من الصدف المؤلمة أن يكون غروب شمس المغفور له ، مزامنا لغروب شمس الطبيعة والكون ؟
رحل إذن محمد محمود ولد محمد الراظي .. هذا الرجل الذي عشق الأرض والناس والعصافير المهاجرة بين وديان لعصابة المترامية .. عشق الرمل الذي اتخذ سمرته من عرق (الكادحين) و(لبروليتاريا) .. وكان رحمه الله احد هؤلاء .. ولم لا ؟ .. وهو الذي خبر العمال طيلة رئاسته لاتحادهم .. أيام كان يطمح إلى أن يغير قانون السخرة والاغتراب اللذين كانا يحكمان علاقة العمال بأصحاب رأس المال .. لم يكن يعير محتده أي أهمية مقابل بسمة يستطيع أن يرسمها على شفاه حمال أو جزار أو معلم تشققت أنامله بحثا عن لقمة بطعم العرق.
واعتصم الراحل بحبل الله .. وبحب المسحوقين .. كان في نظر البعض .. حالة نادرة وغير طبيعية .. فكيف وهو ولي عهد قبيلة من أعظم واكبر وأنبل قبائل موريتانيا .. لا يسير في ركاب ترسيخ المشيخة والقيادة ؟ ..
متى كان مثله يقايض الطموح بالحق ؟.. وهل ينتظر منه أن ينزع التاج الذهبي ليضع مكانه عمامة من الخيش ، ينزعها بين الفينة والأخرى احتراما وتقديرا للضعفاء والبؤساء ؟.
اعتصم في مقر اتحاد العمال ، ودام حصار السلطة مدة من الزمن ، ولأنه يدرك أن احتجاجه اكبر من أن يتم تقبله كممارسة ديمقراطية ، في وقت تسود فيه الأحذية الخشنة ، والبذلات الداكنة وقعقعة البنادق .. ترك اتحاد العمال .. ولكن آلامهم وأحزانهم لم تفارقه لحظة واحدة .. إن الأفكار لا تموت مهما رحل الجسد .
كان يهتف بكبرياء :
لا تصالح ولو منحوك الذهب 
أترى حين أفقأ عينيك 
واثبت جوهرتين مكانهما .. هل ترى ؟
هي أشياء .. لا تشترى

لكن المغفور له ، كان مؤمنا بأنه ابن زمن وسليل حضارة وتاريخ .. فلم يناقض نفسه ..وظل وفيا لأفكاره التي جلبت له في أكثر مراحل حياته حسما ، غضب الحكام وفتحت مصاريع سجونهم الموحشة أمامه ، ظنا منهم انه من (نمير) .
لم تحركه عواصف البطون ، ولا أعاصير الترغيب والتهديد عن أفكاره التي آمن بها ودرسها .. كان يدرس اللغة الفرنسية في مدارس كيفة .. وكانت له رهبته الواضحة في الفصل وفي الشارع .. هل كان بحاجة مادية إلى أن يكون معلما ؟
اعتقد انه كان يؤدي رسالة روحية ويطفئ ظمئا ذاتيا اتجاه الوطن والشعب ، إن اغلب أبناء الشيوخ عندنا درسوا لغة المستعمر لأنهم كانوا مهيئين لخلافة آبائهم قياديا ، لكن المغفور له لم يشعرنا يوما واحدا بأنه ابن شيخ وانه الشيخ القادم ولم يكن له مريدون ينزعون الحصا والعثرات عن طريقه .. كان بسيطا في معاملته وفي لبسه وفي علاقاته الإنسانية ، يتصرف مع الجميع كما يتصرف الأخ الأكبر مع إخوته ، وبهذه الروح العظيمة التي لا تعرف الكبر والصفاقة .. أحبه الناس فأمن .. فنام .
وعندما فرضت عليه سنة الحياة وشرعة الله أن يخلف والده المغفور له محمد الراظي ولد محمد محمود على رأس قبيلته العامرة ، وكان ذلك أيام دخول البلاد في التجربة (الديمقراطية) كان الراحل احد اكبر داعمي ولد داداه في انتخابات 1992 ضد الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع ، ولم يكن مناورا ولا منافقا ولا باحثا عن منصب أو تعهد يطعن من خلاله مرشحه في الظهر .. ورغم ذلك لم يتمكن ولد داداه من الوصول إلى السلطة ، بغض النظر عن ما قيل عن التزوير الذي شاب تلك الانتخابات .
وتغيرت اللعبة السياسية بعد ذلك وكان المغفور له وجه عشيرته الذي ستحسب عليها مواقفه وآراءه ، فانضم إلى الحزب الجمهوري ، وفي لحظة تنم عن عظمة الرجل وعشق مدينته له ، ترشح للانتخابات البلدية ضد مرشح الحزب الجمهوري آنذاك ، وكان مستقلا ، واذكر أن لائحته كانت تحمل اللون الأصفر ، وفاز في تلك الانتخابات ، وبذلك أعطى لولد الطايع يومها درسا كبيرا حول معنى أن يكون شيخ القبيلة مثقفا ثقافة عصرية ، وانه لا يتكئ فقط على الميراث الروحي والغيبي المحفور في أذهان الرعية .
هكذا إذن عودنا المغفور له .. ومنه درسنا أن الحق مقدس وان الجبان هو من يفكر بساقيه عند الخطر ، ويوم انقلب البعض على ولد الطايع ، وبدأت فلول البراغماتيين تتسلل من الحزب الجمهوري ، تحت جنح الظلام ، كخفافيش الغابات الاستوائية ، وانطلقت الحناجر بالثناء على الحكام الجدد : (مات الملك .. عاش الملك) ، بقي المغفور له صامدا كالطود الشامخ في موقعه ، مؤمنا بحزبه ورفاقه ، مقدما بذلك الدليل على انه لا يعرف للحرباء إلا لونا واحدا .. وهو البياض .
إن تأبين المغفور له عبارة عن كتابة قصة من قصص الأدب العجائبي ، وان كتابتها لتحتاج إلى أن تكون الأقلام والأوراق والأذهان بمعزل عن هول الصدمة والمفاجأة .. ومهما يكن فسيترك رحيله فراغا في النفس والواقع ، ولكنه سيشع في الذاكرة والسطور ، ذلك أن الثوار يملؤون العالم ضجيجا كي لا ينام بثقله على أجساد الفقراء .
رحم الله المغفور له محمد محمود ولد محمد الراظي ، وليس لنا إلا أن نقتبس من رثاء طه حسين لعباس محمود العقاد قوله : " أمثالك تموت أجسامهم لان الموت حق على الأحياء جميعاً، ولكن ذكرهم لا يموت لأنهم فرضوا أنفسهم على الزمان وعلى الناس فرضاً.. وسيوارى شخصك الكريم في أطباق الثرى ولكن القبر الذي سيحتوي شخصك لن يستأثر بك.. فلك في قلوب الذين يحبونك والذين ينتفعون بأدبك وعلمك ذكر لن يموت ولكنهم لن يستأثروا بذكرك وإنما ستستأثر به الأجيال التي تبقى بقاء الدهر. بقلم : الدكتور : الشيخ ولد سيدي عبد الله .