يمكِن لأي دارسٍ للفلسفةِ -أو حتى للأنثروبولوجيا- أن يجادِل في "ديموقراطيَة" أثينا وعلاقَاتها المباشرة وغيرِ المباشرة بسبارطة وطروادَة وروما وقرطاجنّة واللاذقِية وكل مدنِ البحرِ الأبيض المتوسط، لأن تلكَ أمم قد خلَت وكل المتوفّر عنها نصوصٌ تاريخية، فيقولَ بسلامَة بعض الممارساتِ وبتخلف أخرى.. يفعلُ ذلكَ لأن التارِيخ (كل التاريخِ) ليس قطعِي الثبوت مهما كانت أدلّته ومهما كانت ثقتنا فيها (والحدِيث هنا موضوعِي بحت).. يمكِن الرجوعُ مثلا إلى حادثة قتل سقراط معلم أفلاطون، هذا الأخير هو الذي كتبَ "الجمهورية"، يمكنُ الرجوع إلى تلك الحادثة لفهمِ طبيعة الديموقراطية في أثينا أيامها..
ويمكِن سحبُ ذلك الجدل حتى يغطِي كل التاريخِ الذي سبقَ منتصف القرنِ الخامس عشر ميلادي.. عندَها يتحوّل الجدل إلى "تحقِيق"، ففي تلكَ الفترةِ بالذات عاشَ نيكولو ميكيافيللي، وفيها كانت جمهورية فلورنس تتحكم في جل أموالِ إيطاليا وكان لورينزو ديمدتشي مثالا جيدا جدا على السياسِي الذي يستمِد قوته ليس فقط من نفوذِه المدني وإنما من خزينة أمواله الطائلَة التي كادت تُركع الكنسية في قلبِ أوروبا.. التحقِيق المعنِي هو ذاك المتعلقُ بفصل الأفكارِ السياسية في إطارِها النظري عن التجربَة "الخلافَوية" المتأصلة بفعلِ غلبة التاريخ، ففي تلكَ الفترة كان العثمانيون في تركيا أسياد المتوسط، لكِن كانتِ الديموقراطية تمر بمرحَلة إعادة بناء في إيطاليا..
في القرنِ السابع عشر، ننتقلُ قليلا إلى الغرب، إلى قريَة صغيرة في فرنسا تدعى La Brede حيثُ ولدَ فيلسوف ومنظّر ومأصل سياسة "فصلِ السلطات" البارون شالز لويس دَ سكوندات، المعروفُ علَما بمونتسيكيو.. أيامَها كانت فرنسا تحتَ الحكم الملكِي فكانت كتابة مونتسيكيو عن فصل السلطات تشبِه كثيرا كتابة ميكيافيللي في "الأمير" عن الوسيلة والغاية وعن فلسفَة الحكم القائمة على السُلطة وحسب، تتشابَه الكتابتان ليسَ في المضمون حتما، فميكيافيللي يبدو لكثيرين عدو الديموقراطية الأول (رغمَ أنه ليس كذلك حقيقة) وعلى النقيضُ منه يبدو مونتسيكيو كأنه الأب الروحي للسلطات الثلاث، لكن وجهَ التشابه الذي أقصده هو في سبقِ الرجلين على تاريخِهما، تماما كسبقِ أفلاطون على الميلاد.. أفكارهُما كتبت لنا، كتِبت لنستعين بها اليوم..
بعدَ موتِ مونسيكيو بأربعٍ وثلاثين سنة، في العام 1789 يسقطُ الباستيل ويسقطُ معه لويس السادس عشر، في ثورة ربما هي الأشهر والأفشل في التاريخ (على المدى القريب جدا) فالجمهورية الفرنسية الأولى لم تعمر إلا سنينَ قليلة لتعود الملكيةُ من جديد ويبدأ عصر الامبريالية التوسيعية الاستعمارية بكل تفاصيلها "الجبائية النهبية" المقيتة مع نابليون بونابرت، إمبريالية فرنسا على الأقل كانت نتاجا للثورة المضادة على الثورة الفرنسية، فهل كان إسقاط لويس السادس عشر وقطيعةُ فرنسا مع الدولَة الدينية سببا غير مباشر فيما نحن فيه اليوم، من يدري؟! ..
فرنسا استمرّت في صراعِها مع الذات، لكن على ضفة المانش الأخرى قبل شق النفق بعقود كثيرة، كانت إنجلترا تحرقُ المراحل في طريقها إلى ديموقراطية يعترف الساسة الإنجليز اليوم أنها غير كاملة -تجريديا على الأقل- وربما غير منصفة في كثير من الأحيان، لكن نجاحها الحقيقي هو في الشعب الذي تجمَعه، فلا أحد ثارت ثائرته عندما صوت الإسكوتلنديون مرتين آخرهما كانت قبل أشهر على الإنفصال عن الكومونويلث، تماما كما أنه لا أحد اعترض على شرب سايكي وبيكو قهوتيهما في مكتبيهما وتقسيم العالم "العربي" كما يشاءان، فبقيت جيبوتي مستعمرة فرنسية بينما بقي جبل طارق بيد الإنجليز وتمت تسوية كل ما عدا ذلكَ وديا باسم: الحداثة..
أينَ اليوم من كل هذا؟! .. اليوم، على رأي المفكر والمؤرخ العراقي سيار الجميل، نعيش في وطن عربي لا أصل لدوله سوى فتات الأنظمة التي خلفها المستعمر..
كل الدول العربية القائمة اليوم هي استثناءات فاضحة لقاعدة "الديموقراطية اليدوية" التي تجعَل من النرويج "أعدَل" الدول على الإطلاق في مساواة مواطنيها، بينَما عندَنا يولد المواطن ويموت وهو لا يحمل من المواطنة سوى الإسم، وسأقتصر على مثالين فقط، لأهم دولة عربية وللدولة التي أسكنها (وأرجو ملاحظة أن لفظ الدولة هنا تمليه الخريطة لا غير)، مصر وموريتانيا، الأولى ركام من بقايا ما صنعه محمد علي في ظل ضعف العثمانيين والثانية فتات ما تركه أخلاف كوبولاني في الصحراء الكبرى، لكن في مصر على الأقل حالة مدنية قائمة منذ عشرينيات القرن الماضي، وفي كلتا الدولتين دولة سُرقت تماما كما سرقت فرنسا بعدَ ثورتها المجيدة..
الفرقُ الوحيد، أقول الوحيد بين "ديموقراطتنا" وديموقراطية الغرب، أن الأولى "خديجة"، غير حقيقية، صورية بوهيمية.. والثانية أصلية متجذرة بممارسة وتجارب القرون.. نحنُ نعلمُ، كلنا نعلمُ أننا نعيش في أوطان مسلوبة الإرادة، تجاوزت فلسفات أفلاطون وميكيافيللي ومونتسيكيو وبرتراند راسل وتشبثت بالنياشين فقط ليحافظ نزلاء السجون العربية الكبرى المسماة دولا على قول: الحمد لله!، على رأي وائل غنيم.. يولدُ الرجل (أو المرأة) ويموتُ وهو لا يعرفُ أنه له حقا في أمر معين، لكن على الأقل في هذه النقطة بالذات يمكننا لوم الأمم المتحدة..
جرب أن تدخُل أي وزارة في أي بلد عربي (ربما الاستثناءان الوحيدان لذلك في هذه اللحظة هما قطر والإمارات)، لكن بقية الكيانات الأخرى كلها مهترئة، جرب أن تدخلَ وزاراتها وستدرك ما أتحدث عنه.. النخب فيها طيّعة للمتغلب -إلا من رحم ربك- والشعب فيها يأكل صمته ويشرب تخلفه وينام ليلا دون أن يقرأ لديكارات أو نيتشه.. ومع ذلك يصوت في الانتخابات! .. تصور أنه عندَنا يصوت -ذلك الشعب- في انتخابات رئاسية يضبطها دستور يقول بفصل السلطات ويقول في نفس الوقت أن الرئيس (التنفيذي) هو رئيس المجلس الأعلى (القضائي)، لا يهم، هذه مغالطة لن تمنع أحدا من الإدلاء بصوته لأن كل أحد يعلم علم اليقين أن صوته لا قيمة له، والكل لا زال يعيش مخدرا بشعارات الحزب الجمهوري وحزب الشعب والهياكل قبله.. فعن أي ديموقراطية نتحدث؟
كل هذا المكتوب أعلاه، إن كان أحدكم وصل إلى أدناه.. جاءَ بفعل الحنق و"الغل" الذي تراكم في صدري فجأة عندما رأيت "نخبَة" تصفق لرئيس انقطعت الكهرباء في أوجِ كلمته، تساءلت لحظتها عن حقيقة ما نحنُ فيه، أي مسرحية كُبرى ننام على كراسينا فيها وهي مستَمرة ونستيقظ لنجد نفسَ المشهد مستمرا، ولا أحد منا يصفّر على الممثل المبتذَل دورُه بأن يغير طريقة كلامه، على الأقل لكي ننام في المرة المقبِلة ونصحو على طريقَة جديدَة في التغييب..
الخلاصة: الديموقراطية لا تحدثُ بينَ ليلة وأخرى والشعوب لا تأخذ طريقَ الوعيِ لوحدِها، وعلى رأي المفكر عزمي بشارة: الحكومات هي التي تصنع المواطنين، فما دامت عندكم حكومات كهذه، رجاءً لا تحلموا أبدا -أثناء نومكم في المسرحِية- أن تستيقظوا وقد انتهت.. لأنها لن تنتهي إلا عندما يجيب كل واحد منا عن قناعةٍ على هذا السؤال: لماذا يصفقون؟!
بقلم: محمد عبد الرحيم