ذكراهما ما تزال تعشش ها هنا . بقلم : محمد فال ولد سيدي ميله

جمعة, 2015-11-13 13:32

نـثــْــرُ "الليل والقبور" طيف يزور كل الباكين، الساهرين، المتلذذين بذكرى صامتة أو خيال هارب شارد حزين.

كانا صديقـيْـن.. كانا أخوين.. كانا حبيبين.. كانا قــُـطــْــنًا هشا حريريا يفتت في قلوبنا كل الصلافات والخشونات..

ذهـَـبَــا، نعم، ذهبا إلى بارئهما وغافر ذنبهما. ذهبا بوداعتهما، ورقتهما، وكبريائهما، وسَمَـرهما الجميل، ودعاباتهما القاتلة كل نوبات التـجــهم..

خريرُ ابتساماتهما المائية السائلة كجدول الأحزان ما يزال يسكن ها هنا.. هديلُ ضحكاتهما في ليلنا الطويل ما يزال يعشش ها هنا.. وها هنا ما زال حبهما متمردا على عفريت النسيان..

عذابات فقدهما ما تزال تجلد كل وسادة أسندت رأسيْـهما الوديعين، ما تزال تصفع كل ربوة حدثاني فوقها عن الشعر، والشاي، والفضيلة، والقميص المزركش، والعطر الليموني، وأعقاب السجائر.

واليوم: "ما حالُ ربــعِ الفريقِ بعدي؟.. وكيف الأطلالُ والرسـومُ؟.. يا ويحَ نفسي مضى زماني.. ومزّقتْ عيشي الهمــومُ.. وفرّق الموتُ أهــلَ ودّي.. فلا صديقٌ ولا حمـــيمُ".

نعم، لا شك أنهما مَـضــَـيا: شنـّـوفْ، ذلك الفردوس، ذلك المسك، ذلك السهو الآسر للقلوب، ذلك الرجل الطفل في سؤالاته، الطفل في براءاته، الطفل في نقاء قلبه، ذلك الشهم، الكريم، الطويل بقامة أبطال الأساطير، الكيـّسُ كحكماء الإغريق، السمح، الودود، البار، العطوف، الديـّـن.. نعم، إنه هو بالذات، لا أحد غيره.. شنوف، اشـْـنــَـافْ، اشـْـنــنْ: أسماء نـُـغــَــيـّـرها في هدهداتنا الكثيرة لذلك الإبن، الأخ، الصديق، المسافر أبدا في جوف النثر وفي محراب الذكريات الجميلة.

هناك، في بحبوحة أخرى من الرحمات الربانية، يرقد في إغفاءته الأبدية، أخونا محمد سالم ولد عزيز: عجينة من الشهامة، خــَــلطة من المروءة، رحيق من حسن الخلق، رغيف من الكرم.. لمْـلـَــمَ أوراقَ هذه الدنيا الدنيئة ومضى محطما قلوبنا، مريقا الدموع الدافئة المنهمرة كلما تذركتْ رجاحة عقله، أو رهافة حسه، أو سرعة بديهته..

وتفرق الركبُ وانتهتْ قصة الأخلـّـة.. عَـبَـسَ الليلُ وتولى، وهاجرتْ مِـن سعف القلوب ذؤاباتــُـها، وبقيتُ أتساءل واجمًا في غربتي: "والصّـحـْـبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بقِيَتْ ســوى ثـمـالة أيـام تـذكاري.. بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا قـلبي الـعناء.. ولكن تلك أقداري"..

صحيح أنني "فارقتُ ريْـحانــَـتــَـيْ قلبي وما رضــيّتْ نفسي الفراق ولا اخترتُ النوى بطرا.. ما صبرُ صبٍ لهُ في كلِّ جارحة جرحٌ أعادَ عليهِ صبرهُ صبرا.. وطالما هاجتِ الشكوى لهُ شجناً فذكرتهُ زماناً مرَّ فادّكرا.. ولمْ يكونا حبيبيـْـنِ افتقدتهما في غربتي بلْ فقدتُ السمعَ والبصرا".

مَضــَـيـَـا بالفعل غير عابئــيْن بحصائر مفروشة في قلوبنا كمْ على خمائلها أنسياني عـُـجمة الدهر الخؤون وظلمة الواقع المر!.. كم على رقائقها علماني فنّ المروءة وعلم الابتسامة وفلسفة الصداقة الحميمة!.. إنه عهد بات يبكي كما نبكيه، أضحى عبوسا بعد مُـضِـــيّهما، أصبح هزيلا عندما دق جرس سفرهما الأبدي المريع.. وا أسفي على الـْــيُـوسُـفـَـيْن حين ابيضــّـتْ عينايَ من الحزن!.. كيف لا، و"الـطيرُ هَـاجَرَ، والأغـصانُ شاحبةٌ، والـوردُ أطـرقَ يـبكي عـهد آذارِ".