[ستسْهِم الرقمة في ترشيد الورق المهدور و الجهد المبذول ]
دون تعَمُّقٍ؛
كان يوم الأربعاء 13 مارس 2024 يوما فارقا في تاريخ الدولة الموريتانية، حيث تمكنت الحكومة من عقد اجتماعها الأسبوعي بدون أوراق.
من أولى حسنات رقمنة ملفات مجلس الوزراء أنها ستخفف من أعباء الورق المهدور في ترجمة كل شيء ..
تُقدم مشاريع القوانين مؤشرة من طرف الإدارة العامة للتشريع بلسانين عربي وفرنسي. ورغم ما للغة العربية من دستورية واضحة حيث ينص الدستور الموريتاني في مادته السادسة على انها اللغة الرسمية للدولة، الا أن أغلب المشاريع تحرر أصلا باللغة الفرنسية وتكون النسخة العربية مجرد ترجمة كان هذا هو السائد الغالب في الحقب الماضية، وإن تبدل ذلك مع وجود كوكبة من الشباب متصالحة مع ذاتها.
ولئن كان الدستور الموريتاني حسم هذه المسألة، الا ان النصوص القانونية لم تحسم أفضلية النسخة العربية على النسخة الفرنسية في الواقع العملي للأسف، باستثناء ما نُص عليه في الامر القانوني رقم: 162/83 المتضمن القانون الجنائي، المعدل بــ: الأمر القانوني رقم 1984/060 و القانون رقم 2011/048و القانون رقم 2018/018 و الذي نص في الفقرة الثانية من المادة449 على انه عند اختلاف النسختين يرجع الى النسخة العربي" وكل ما لم يتضح معناه في نص الترجمة الفرنسية يرجع فيه إلى هذا النص العربي وإلى أحكام الشريعة الاسلامية ".
"La version arabe du présent code faisant foi، s'y référer en cas de difficultés de compréhension du texte français".
ويتضح من هذه الفقرة أن المشرع الوطني كان واضحا في اعتبار النسخة الفرنسية مجرد ترجمة للنشر لا أكثر، ليس لها أي قيمة قانونية.
وبعد تقلُّب الازمان انقلب ميزان هذا التقدير لتتحول النسخة العربية الى ترجمة قاصرة عن إدراك روح ومضمون المقتضيات القانونية التي تتضمنها القوانين الوطنية.
يؤدي تداول هذا الكم الهائل من الأوراق خلال الاجتماعات الرسمية الى ارهاق كاهل الموظف و ميزان الدولة المالي لنضرب مثالا على ذلك: يحال مشروع القانون الى مجلس الوزراء في حوالي 40 نسخة باللغة العربية و اللغة الفرنسية أي 80 نسخة، و بعملية بسيطة جدا إذا كان مشروع قانون من 90 مادة فستكفيه على الأقل 23 صفحة مسحوبة على وجهين أي 12 ورقة، أي 480 ورقة أي 960 صفحة بالنسبة للنسخة العربية و 960 صفحة بالنسبة للنسخة الفرنسية أي ان مجلس الوزراء سيستغل في مشروع قانون واحد 960 ورقة أي 1920 صفحة. لنفترض ان المجلس قدمت له عشرة (10) مشاريع قوانين خصوصا اذا كانت قوانين كبيرة أساسية كـ: (المدونة المعدنة ، الاستثمار ؛ مدونة الضرائب؛ الجمارك ؛ البحرية؛ الطيران؛ قوانين العدالة.....) فإن كل وزير سيستهلك من الأوراق 9600 ورقة أي 19200 صفحة باللغتين العربية والفرنسية ... بالإضافة الى كم هائل من الحبر و الجهد و التدقيق و الترجمة.
بالنسبة للترجمة فهي أم الكوارث هنا .. لان تقديم المشاريع باللغتين و نتيجة عدم توحيد الترجمة وانعدام ترجمة قانونية موحدة رغم ما تبذله الادارة العامة للتشريع و الترجمة من جهود لا يمكن تجاهلها، و ما تبذله ادارة تنسيق العمل الحكومي من جهود مضنية لا يمكن انكارها إلا أن الوقت يضيع في تدقيق الترجمة و مطابقتها لتتحول مهمة الادارة العامة للتشريع التي هي المطابقة القانونية الى المطابقة اللغوية نتيجة سوء الترجمة ما يرد عليها من نصوص كثيرة و مترجمة غالبا من طرف مترجمين "معتمدين" أو غير معتمدين متعددي الاتجاهات منهجيا في الترجمة ما يؤدي الى تعدد الاصطلاحات ( المسطرة الاجراء، المستفيد الحقيقي ، المستفيد الفعلي.... ) وبالتالي سيضيع وقت الادارة في مطابقة النصين بدل مطابقة النص مع القوانين الأخرى ذات الارتباط (المطابقة القانونية) او تأشيرة التشريع كما عندنا.
فبدل أن تصاغ مشاريع القوانين بلغة واحدة و بإحكام وتحال الى الادارة العامة للتشريع من اجل مطابقتها ثم تقدم الى ادارة الترجمة بعد مصادقة مجلس الوزراء او قبل مصادقة المجلس الوزراء من اجل ترجمتها ترجمة قانونية موحدة الاصطلاحات و المفاهيم القانونية وتدقيقها لغويا واملائيا، نرى كل وزارة تترجم لنفسها بما تشتهي و كيفما تشتهي و بآليات مختلفة ثم تتزاحم على مورد واحد مشغول تتكالب عليه النصوص القانونية للدولة وبموظفين محدودين ليس بإمكانهم رد هذا سيل النصوص المتدفق من 30 هيئة وزارية وما لا يحصى من المؤسسات الإدارية.
لم ينته الاستنزاف الورقي بعد، فبعد موافقة مجلس الوزراء على المشروع يُحال الى البرلمان من اجل المصادقة فإن كان مثلا مشرع القانون من 90 مادة فسيكون من 13 ورقة على الاقل مضروبا في عدد النواب 176 أي 2288 ورقة أي 4576 صفحة للنسخة العربية فقط و4576 للنسخة الفرنسية أي ما مجموعه 9152 صفحة، تصوروا الكيفية التي ستحمل بها هذه الاوراق إلى البرلمان والى مجلس الوزراء.
لا شك أن رقمنة هذه الكارثة ستوفر الاوراق و الحبر و الجهد و البنزين و تقضي على التلوث البصري و الذهني و البيئي وتختزل الوقت.
لم تنتهي الكارثة بعد بإصدار القانون سيوقع صاحب الفخامة على القانون في خمس نسخ بالعربية و خمس نسخ باللغة الفرنسية أي أنه سيوقع 10 مرات بدل 5 فقط .
لم تنتهي الكارثة بعد الاصدار سينشر القانون في الجريدة الرسمية للجمهورية الاسلامية الموريتانية باللغتين عادة ما يكون العدد من 40 صفحة تقريبا لكل نسخة عربية أو فرنسية و هذه ليست مشكلة لأن النشر ضروري أن يكون متعدد اللغات، المشكلة أن النسختين العربية و الفرنسية التي نشر بها القانون في وضعية متضاربة الترجمة بين المقتضيات القانونية فرغم ما يبذل من جهد مضن و مشاهد الا اننا نزود المشتغلين بالقانون في كل مرة بمذهبين قانونيين وبمقتضيين قابلين لفهمين متعددين نتيجة تضارب الترجمة مع عدم وجود نص حاسم يقضي باعتماد احدهما دون الاخر للأسف سأضرب مثالا:
الأول: تنص المادة 145 من قانون الاجراءات الجنائية ان الطعن بالتعقيب في قرارات غرفة الاتهام لا يوقف التنفيذ الا في الجرائم المعددة في الفقرة 3 من المادة 138 .تحصر هذه الفقرة الجرائم فيما يلي:
القتل العمد أو المتاجرة بالمخدرات أو الإرهاب أو جمعيات الأشرار أو المتاجرة بالبغاء أو الاغتصاب أو نهب الأموال أو بسبب جريمة مرتكبة من طرف عصابة منظمة".
لا حظوا معي ترجمة المتاجرة بالمخدرات وجمعية اشرار وعصابة منظمة في النسخة الفرنسية لنفس المواد:
" homicide volontaire, trafic de drogues, terrorisme, association de malfaiteurs, prostitution, viol, brigandage ou pour cause d’infraction commise en bande organisée".
الاشكال الاكثر تعقيدا ما يطرحه التضارب في الترجمة من خطر على حرية الافراد فمن اتهمته النيابة العامة بجريمة ترويج المخدرات أو المتاجرة بها طبقا للمادة 36 من قانون المخدرات لو طلب حرية مؤقتة و اطلقته غرفة الاتهام هل سيتم اطلاق سراحه في ظل تعقيب النيابة العام الجواب باعتماد النسخة العربية لن يتم اطلاق سراحه في حين ان النسخة الفرنسية تطلق سراحه لأنها تتحدث عن تهريب المخدرات trafic de drogues و هو ما يتناسق مع روح التشريع الوطني فالمهرب هو المقصود وعلى هذا سيطلق سراحه ، ممارستان قضائيتان بسبب تضارب الترجمة وعدم اعتماد اي منهما او تفضيل احدى النسختين على الأخرى.
إن حل هذه المشكلة التي تطرحها مسألة تعدد الترجمات واستهلاك كمٍّ كبير من الورق بسيط جدا وهو أن نقوم بما يلي:
1- المضي قدما في رقمة الملفات والوثائق المعروضة ب مجلس الوزارة و كذا الجمعية الوطنية، وتثمين هذا الإنجاز الوطني الكبير الذي يستكمل احد البنود الأساسية للحكومة الرقمية.
2- توحيد مصدر الترجمة لتتولاه الإدارة العامة للترجمة و رفدها بالوسائل البشرية و المادية اللازمة.
3- تحرير النصوص القانونية و الوثائق باللغة العربية فقط و اعتبار النسخة العربية هي النسخة الاصلية الوحيدة ذات القيمة القانونية.
4- اعتبار النسخة الفرنسية نسخة قابلة للتداول و النشر من اجل تعزيز النشر القانوني و نشر الثقافة القانونية.
5- انشاء مركز وطني للترجمة من اجل توحيد المفاهيم و الاصطلاحات المستعملة في شتى الميادين وتزويد بجميع الوسائل التي تسهل عمله.
6- الاكتفاء بنشر الجريدة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية باللغة العربية كما هو الحال في جميع دول العالم. واصدر نشرات لها باللغات الأكثر انتشارا.
إن هذه الملاحظات لن تقف دون تحية اجلال و إكبار للأخوة العاملين في الإدارة العامة للتشريع و الترجمة و النشر و الإدارة العامة للتنسيق العمل الحكومي على الهود التي بذلوا ويبذلون من اجل الارتقاء بعملهم النبيل وهي جهود تستحق التقدير و الامتنان .